[size=12]تبدد ظلام الليل تحت وطأة الفجر الجديد وعادت الشمس لتنشر دفئها بين أروقة ذلك المنزل الخالي من ضوضاء الحياة ويستقر ضوءها على جدرانه الطينية فتنعكس صفحة السماء الصافية على مياه الحوض المتوسط لباحة المنزل
استيقظ مصطفى مذعورا من حلم يراوده كل ليلة و أسرع نحو حوض الماء ليغسل ما تبقى من كوابيس,رفع رأسه مصوبا نظره إلى السماء رافعا كفيه وكأنه يعانقها " أصبحنا و أصبح الملك لله", جلس بالقرب من الحوض وهو يمسك بالمسباح و فمه ينطق بأعذب الأدعية و المناجاة , كان قلبه منقطعا إلى الله ولم يكن يدرك بحواسه ما يحدث حوله .. حطت حمامة على كتفه وكأنها تستزيد منه الكلام والدعاء و باقي السرب كان يحيطه, نظر إليهم متفائلا بيومه آملا من الله التوفيق والسداد ونهض ليبدأ رحلة الجهاد اليومية ولكن لم يكن ليتوجه إلى العمل قبل أن يقبل رأس امه فعرج نحو منزل والده, المنزل الذي أحتضنه عشرون سنة قبل أن ينتقل إلى قفص الزوجية كما يسميه, تقدم نحو الغرفة الواسعة التي تتصدر جدارها صورة لشاب في الخامسة عشر من عمره أسمر اللون, عيناه عسلاوان وأنفه يزيده وسامة , ولا تحجب النظارتان بريق عينيه المشع," يا الله كم تمر السنون سريعا, لقد مضى على هذه الصورة عشرون سنة و عصف العمر غير ملامح وجهي " قالها وهو ينظر إلى أمه التي أقعدها تقدم السن على فراش المرض, اقترب منها يمشي الهوينى, أجلسته بقربها فهي تشتاق له دائما فهو ابنها الوحيد ولا تملك شيئا أغلى منه..
سألته عن ابنه الذي لم يره أبدا وكادت تصبح رؤيته شبه مستحيلة أو رهن الخيال, أجابها بلوعة يشكي همه: آه يا أمي, خمس سنوات انتظرت قدومه على وجه الحياة و عندما أبصر النور لم استطع رؤيته, لقد أصبح عمره عشر سنوات وهو بعيد..,قاطعه والده بحزم: ألم أقل لك المحكمة كفيلة بأن ترجعه لك, ولكنك لا تعمل بنصيحتي, دع الطيبة والسذاجة تنفعانك
أطرق برأسه والدمعة عالقة في عينيه: لا تنسى يا أبي أنها كانت يوما ما زوجتي , ولا تزال أما لولدي..
يمم وجهه شطر العمل, هناك الكل يسأل عنه وعن ولده قبله, هل أتتك أخبار عنه؟, ألم تصل رسالة منها؟ , وتزداد الحسرة في قلبه وتهيمن على عقله فلا تكاد ترى ابتسامة مرسومة على ثغره , ثمة دموع تريد أن تهرب من عينيه ولكن كبرياءه يأسرها فهو لا يريد أن يظن الناس بأنه ضعيف," الرجل يستطيع أن يتحمل", هذا ما يقوله لنفسه ليتمكن من كبت مشاعره و دموعه, وبعد ان تأذن الشمس للمغيب يعود إلى منزله الخاوي..
كان يتمنى لو انه يسمع ضحكات ابنه تضج في المكان وهو يركض خلفه يلاعبه ويداعبه," آه ما أقسى الدهر", فتح باب المنزل فسقط ظرف على الأرض و حالا فتحه و قرأه, إنها رسالة منها تشرح له فيها بأنها تزوجت ويمكنه أن يأخذ ابنه
تهلل وجهه فرحا, أخيرا سوف يرى طفله الملاك
أدار الهاتف و اتصل بمديره ليطلب اجازة يوم كامل وسرعان ما وافق عندما أخبره السبب
جلس متأملا النجوم المتناثرة على صفحة السماء ويعد لساعة الصفر التي ستحتم لقاءه مع ابنه, يرسم في مخيلته صورة له," لابد و أنه يشبهني كثيرا, محمد , أخيرا سأراك يا حلم حياتي", وسرعان ما انفلق الصبح, صلى صلاة الفجر و قرأ ما اعتاد عليه من أدعية و آيات و أخذ يجهز حقائبه و وضع فيها كل ما اشتراه لمحمد, ركب سيارته و أخذ يقودها نحو أمله الموعود, فجأة تحطم كل شيء !
لقد اصطدمت به شاحنة و حطمت السيارة ومات مصطفى لتدفن حسرة لقاء ابنه مع رفاته تحت التراب..
[/size]