لقد جاء ذكر أهل البيت في القرآن الكريم في أكثر من آية من آياته المباركة، ونحن نشير إلى ثلاث آيات تحدثت عنهم فشملت فيما شملت سيدتنا الزهراء سلام الله عليها.
الآية الأولى قوله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿٨﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿٩﴾ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿١٠﴾ فَوَقَاهُمُ اللَّـهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴿١١﴾ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان:8-12].
﴿ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً﴾ فهم يعيشون روحية العطاء في أجواء الحرمان الذي يصيب بعض الفئات الاجتماعية المحرومة الخاضعة لبعض الظروف الضاغطة عليهم، كما هي حال اليتم في اليتيم، والفقر في المسكين، والأسر في الأسير، فيعانون الجوع في كثير من الحالات، لكنهم يجدون لدى الأبرار والخيّرين انفتاحاً على حاجاتهم الغذائية، فيقدمون لهم الطعام في لمسة تعبيرية رائعة، في الوقت الذي قد يكونون محتاجين إليه في حياتهم الخاصة. ولعل هذا هو معنى "على حبّه"، أي مع توق النفس إلى الطعام لشدة الحاجة، وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى:﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾[آل عمران:92]، وهذا التفسير مبنيّ على إرجاع الضمير (هاء) في "حبه" إلى الطعام، وهناك تفسير آخر يُرجع الضمير إلى الله سبحانه، أي يطعمون الطعام على حب الله وتقرّباً إليه.
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ ﴾ حيث الرغبة في القرب إليه، فهم يقدّمونه لله ويضعونه بيد الله عندما يقدمونه للمحتاجين ابتغاء مرضاته بعيداً عن النوازع الذاتية ﴿ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ لأننا نعمل من أجل رضا الله ومحبته ورضوانه، لا ابتغاء تعويض مادي أو معنوي، فهي الرحمة العميقة في القلب المنفتح على الناس من خلال انفتاحه على الله، وهي الروح التي تعيش العطاء كرسالة روحية تتحسّس حاجات الآخرين وآلامهم، ولذا فإنها تبذل وتبذل، وتتدفّق بالخير كله، تماماً كما هو الينبوع عندما يتدفّق بالماء إلى الأرض العطشى، وكما هي الشمس تبذل النور إلى كل الآفاق المظلمة التي تتطلع إلى رحاب الشروق.
بين سموّ العطاء والخوف من الله:
وهذا ما تنطلق فيه التربية الإسلامية للشخصية الإنسانية من أجل أن يكون العطاء عنصراً ذاتياً في الإنسان، بحيث يتحرك في ذاته بشكل عفوي، وبحيث يكون الدافع الأساس في ذلك كله هو ابتغاء وجه الله، حيث ينفتح على الله وعلى الله وحده، فهو الوجود كله ولا وجود لغيره، وهو الغاية في كل شيء ولا قيمة لسواه، فتكبر الأشياء لديه إذا ارتبطت بالله، وتصغر الأمور عنده إذا انفصلت عن الله، وتتلوّن حياته بهذا اللون السماويّ المشبع بالصفاء، فلا معنى للحياة إلاّ إذا التقت بالله في مواقع الحياة.
وإذا كان الهدف هو ابتغاء وجه الله في عمق المحبة، فإن الخوف منه قد يؤكّد الارتباط الروحي من جهة أخرى، فهؤلاء الناس الذين يتمثّلون بهذا النموذج الإنساني، يتطلعون إلى اليوم الآخر في أهواله ومشاهده العابسة المرعبة، فيدفعهم الخوف منه إلى الوقوف في خط المسؤولية، فيقدمون كل شيء لديهم من أجل أن يتخلصوا من عذاب الله في ذلك اليوم.
﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ أي صعباً شديداً، وذلك ما يريد الله أن يثيره في وعي الإنسان، من أجل أن يربي نفسه على الانضباط في الالتزام بأوامره ونواهيه، على أساس التطلع إلى يوم القيامة حيث يواجه نتائج عمله في عذاب الله. وهذا هو الهاجس الذي عاشه هؤلاء الأبرار عندما كانوا يطعمون الطعام وهم بأشدّ الحاجة إليه طلباً لمرضاة الله واتّقاءً لعذابه، والطعام هو نموذج لكلّ العطاءات والخدمات التي يحتاجها الآخرون، فنطعمكم لوجه الله تعني أننا نقضي حاجاتكم لوجه الله، ونعلّمكم لوجه الله، وندافع عنكم لوجه الله، وندخل السرور إلى قلوبكم لوجه الله ومخافة ذلك اليوم العبوس القمطرير، وهكذا جاءتهم الجائزة﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّـهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾.
للسيد محمد حسين فضل الله قدس سره